عدنان بن عبد الله القطان

24 ربيع الآخر 1444هـ – 18 نوفمبر 2022 م

——————————————————————————–

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى، ونشكره على ما هدى وأسدى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.. أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن المال هو قيامُ الحياة، تقوم عليه معايشُ الناس ومصالحهم، كما قال تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) وقد يحتاج الإنسانُ إلى مالٍ لقضاء حاجته، أو حاجة عياله، أو إقامة تجارته، أو زراعته، ولا يجدُ من يُقْرِضُهُ قرضاً حسناً، فيلجأُ إلى الدَّين، وهكذا التُّجَّار، قد لا تَرُوج بضائِعُهم بالبيع الحاضر، فيحتاجون إلى المداينة، والبيوع الآجلة؛ لتسويق تجارتهم وتحريك أعمالهم. وقد أباح اللهُ تعالى الدَّينَ وجعل له شروطًاً وآداباً تحفظ الدائن والمدين، مما يترتب عليه من أخطار ومفاسد دينية ودنيوية. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى… )

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسْلِفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: (من أسلفَ في شيءٍ فليُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجَلٍ معلومٍ) فينبغي للمسلم أن يراعي شروط الدَّين وآدابَه، ويحذر من المعاملات المحرمة بأنواعها.. أيها الأخوة والأخوات في الله: لقد تساهل كثيرٌ من الناس اليومَ بأمر الدَّين فاستدانوا لغير حاجة، وماطلوا في القضاء، أو استدانوا ما لا قدرةَ لهم على الوفاء به

وكان الناسُ فيما مضى يستدينون للضرورة أو الحاجة الماسَّة، كَقُوت عيالهم، أو لعلاجهم، أو لتدريس أبنائهم ،أو لبناء بيوتهم ومساكنهم، أو لشراء بضائع متاجرهم، ونحو ذلك، وبقدر ما يحتاجون إليه، أما اليوم فأصبحت معظمُ الديون للإنفاق على الكماليات من أثاث فاخر، أو سيارات غالية، أو أسفار سياحية ترفيهية أو حَفَلَاتٍ باذخة وغير ذلك ولا سيما مع إغراءات المُمَوِّلين وتبسيطهم إجراءات التمويل ومنهم من يستدين للدخول في مغامرات تجارية غيرِ مدروسة استعجالاً للثراء ولذلك قلَّ اليومَ أن تجد بيتاً لم يدخله الدَّين.. عباد الله: كثيرٌ من الناس اليوم تراه يحمِل بطاقاتِ ديون متعددة: هذه لسيّارَة، وهذه لأثاث، وتلك للسَّفر، فيحمل نفسه ما لا تطيق؟ فليس الدَّين فَخراً ولا شَرَفًاً، إنما الفخرُ راحةُ الذمّة من حقوق العباد، فقد روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُخِيفُوا أنفُسَكم بعدَ أمنِها، قالوا وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ قال الدَّيْنُ) فالدَّين همٌّ وحزنٌ وذلّ وصَغار، يطأطِئ رأسَ الإنسان عندما يتوجّه المدّعون عليه، يطلبونَه حقوقَهم ولا يرحمونَه وقد يتكلمون عليه ويشهرون به.

إذاً فالمؤمنُ ينبغي أن يفكِّر عندما يريد الاقتراض من الآخرين: أوّلاً مدى ضرورة هذا الدَّين، ثم هل هو حاجة ملِحّة لك أم حاجَة كمَالية أو مجاراة وحاجَة لأمورٍ لا قيمةَ لها؟ فإن يكن ذلك الدَّين ضروريًّاً لك أو حاجَةً ملِحّة أنت بحاجَةٍ إليها فخذ من الدَّين قدرَ ما يغلِب على ظنِّك قُدرتَك على الوفاء به وسداده، وإلاّ فإن حمَّلتَ ذمَّتَك ما لا تطيق فقد وقعت في الحرج.

أيها المؤمنون: لقد عظَّم الإسلامُ شأنَ الدين وحذَّر من التساهل في قضائه؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة على الدائن والمدين في الدنيا والآخرة، وهذا أمرٌ مشاهد، فكم من

غنيٍ أو مستورٍ افتقر، وتعرَّض لإيقاف الخِدْمَات أو الحبس، بسبب تراكم دينه، وكان في غِنَىً عن ذلك لو قَنِع بما عنده، ولم يتساهل بالدين، وقد يطالُ الضررُ أولادَه وأهلَ بيته، عافانا الله وإياكم، وأغنانا بفضله عما سواه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام يترك الصلاة على مَنْ عليه دَيْنٌ ليس له وفاء؛ كما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: عليَّ دينُه يا رسول الله (أي أنه تكفل بسداد دينه، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

ولما فتح الله تعالى على المسلمين، وأفاء الله عليهم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي مما أفاء الله تعالى عليه ديونَ المدينين ويصلي عليهم، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسألُ: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاءً صلى، وإلا قال لأصحابه: صلوا على صاحبكم، فلما فتح اللهُ عليه الفتوحَ قال عليه الصلاة والسلام: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)

عباد الله: ومما يبين خطورة التساهل بالدين أن صاحبه قد يُمْنَعُ من دخولَ الجنة عياذاً بالله ما لم يُقضَ عنه، كما في حديث سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جِنازةٍ، فقال: أهاهُنا مِن بَني فُلانٍ أحَدٌ؟ قالها ثلاثًاً، فقام رَجُلٌ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما مَنَعَكَ في المَرَّتَينِ الأُوليَينِ أنْ تَكونَ أجَبتَني؟ أمَا إنِّي لم أُنوِّهْ بك إلَّا لخيرٍ؛ إنَّ فُلاناً – أي صاحب الجنازة الميت – إنَّه مَأسورٌ بدَينِه، قال: لقد رَأَيتُ أهلَه، ومَن يَتحَزَّنُ له قَضَوْا عنه حتى ما جاء أحَدٌ يَطلُبُه بشيءٍ. أي: أن الميت صاحب الجنازة: مات مأسوراً وعليه دَيْنٌ لم يترُكْ له وفاءً، فهو مَحبوسٌ به عندَ اللهِ سبحانه وتعالى مِن دُخولِ الجنَّةِ، فورثته أَوْلى به في قَضاءِ دَيْنِه. وقال صلى الله عليه وسلم: (نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حتى يُقْضَى عنه) وَقَدْ شَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدَّينِ، وحَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى الْإِسْراعِ فِي أَدَائِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله الأسدي قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟، فَسَكَتْنَا وَفَرِقْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ، يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَينٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّين) وفي رواية أَيْضاً: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ). فَإِذَا كَانَ الدَّينُ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ لِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِهِ. فَكَيْفَ يا ترى بِمَنْ أُخِذَ أَمْوَال النَّاسِ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى عَدَمِ رَدِّهَا..  قال النووي رحمه الله:( وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم: (إِلا الدَّيْن) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يُكَفِّر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى). ولعظم أمر الدَّين -عباد الله- وخطورة عواقبه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ بالله تعالى منه، وكان يدعو في الصلاة: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) فالحديث يشير إلى كثرة استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقع في ديون يعجز عن سدادها، فالمغرم هو الدين الذي لا يقوى صاحبه على سداده. قال بعض أهل العلم: يستفاد من هذا الحديث سد الذرائع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الدين، لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث والخلف في الوعد. ويحتمل أن يراد بالاستعاذة من الدين الاستعاذة من الاحتياج إليه حتى لا يقع في هذه الغوائل، أو من عدم القدرة على وفائه، ولا تناقض بين الاستعاذة من الدين وجواز الاستدانة لأن الذي استعيذ منه غوائل الدين – أي كثرة الدين – وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين أي كثرته وثقله. فاتقوا الله عباد الله واحذروا من التساهل في الديون، واعرفوا آثارها، وإذا اضطررتم إليها، فلتكن بقدر الحاجة، وبقدر ما تستطيعون الوفاءَ به، وبالطرق المشروعة الجائزة، مع العزم على الوفاء في الأجل المحدد، فمن كان بهذه الصفة فهو حريٌ أن يعينه الله على وفاء دينه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَها يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ)

اللَّهمَّ رَحمَتَكَ نرْجو، فلا تَكِلْنا إلى أنَفْسنا طَرْفةَ عَيْنٍ، أصْلِحْ لنا شَأْننا كُلَّهُ، وارحَمْنا رحمةً تُغنينا بها عن رحمةِ من سواك لا إلهَ إلَّا أنتَ.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا سميع الدعاء

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن المعروف بين الناس نعت صالح تحبه النفوس الأبيَّة، وتتسابق إليه الهمم العليَّة، ومجاله رحب لا تحيط به الأمثلة، بل كل خير يُبذل، وكل شر يُدفع هو الجامعة التي تحيط بذلك المصطلح الكريم، وإقراض الناس هو من أمثلة المعروف، فمن كان ذا قدرة على نفع أخيه بالدين فليفعل؛ فإن ذلك من الصدقة والبر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل قرض صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يُقرضُ مسلماً قرضاً مرَّتينِ إلَّا كان كصدَقَتها مرَّةً) أي: إذا أقرَضَ مرَّتينِ، كان ذلك كما لو تصدَّقَ على المُقترِضِ مَرَّةً واحدةً، وله أجرُ الصَّدقةِ.

أيها المؤمنون: من الآداب المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها الدائن: أولاً: توثيق الدين؛ فإن ذلك أحفظ للحقوق، وأبعد عن التنازع والخلاف، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في آية الدَّين والتي بعدها، ويكون ذلك التوثيق بالكتابة والإشهاد، أو بالرهن، وهذا ليس واجباً لكنه أولى وأفضل، وليس على الدائن لوم لو طلبه؛ فالآجال بيد الله تعالى، فربما مات الدائن أو المدين فنُسي الدين أو جحد أو زِيدَ فيه، وأمانة الناس قد تضعف مع تغير الأزمنة والأحوال، فكان التوثيق طوق نجاة من تلك المكاره.

ثانياً: على الدائن أن يعلم أن إقراضه عمل خير، وبرٌّ خالص؛ فلا يجوز أن يطلب من وراء دينه مصلحة مالية كالزيادة عند القضاء، أو منفعة دنيوية ينالها من المدين جزاء تسليفه؛ فإن ذلك من الربا الذي نهت عنه الشريعة الإسلامية. ثالثًا: على الدائن ألا يلحَّ ولا يكثر المطالبة بالدين قبل حلول أجلِه، بل عليه أن يُنظِر المدين المعسر ولو حلَّ أجلُ دَينه؛ كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) يعني: (وإن كان المدين (المقترض) غير قادر على السداد، فأمهلوه إلى أن ييسِّر الله له رزقاً، فيدفع إليكم مالكم) وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل إنظار المعسرين ما يحث ذوي الإيمان من الدائنين على تأخير المدينين إلى أن يستطيعوا القضاء؛ فقال صلى الله عليه وسلم: مَن سرَّه أنْ يُنجيَه اللهُ مِن كَرْبِ يومِ القيامةِ وأنْ يُظِلَّه تحتَ عرشِه فلْيُنظِرْ مُعسِراً) وأما إذا سامَحه من دينه، وتصدق به عليه، فهذا أفضل وأكمل؛ ولهذا قال تعالى في الآية السابقة: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: إن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأن فيه تفريجَ الكرب، وإغاثة الملهوف قال صلى الله عليه وسلم: (كان تاجرٌ يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) ومن الأمور التي قد يَجهلها بعض الدائنين أن يجد من أقرضه معسراً، فيقتطع

دينه من مال زكاته، وهذا غير صحيح؛ لأن الزكاة يشترط فيها نية سابقة، وذلك المال إنما خرج على سبيل القرض، فمن أسقط دين مدين على أنه من الزكاة، فليخرج زكاته مرة أخرى.

وعلينا عباد الله أن نعلم أن من جهات البر التي ينبغي المسابقة إليها: قضاء ديون المدينين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً). وعلى من كانت عليه زكاة أن يعلم أن الغارمين – وهم الذين استدانوا مالاً في أمور مباحة، ولم يستطيعوا قضاءه – هم صِنف من أصناف الزكاة، فمن قضى دين مدين من زكاة ماله للتيسير عليه صحَّ ذلك؛ قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم إنا نعوذ بك من المغرم والمأثم، اللَّهمَّ رَحمَتَكَ نرْجو، فلا تَكِلْنا إلى أنَفْسنا طَرْفةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لنا شَأْننا كُلَّهُ، لا إلهَ إلَّا أنتَ) اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها… اللهمَّ أصلِحْ لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلِّ شرٍّ يا ربَّ العالمين.

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك لساناً صادقاً، وقلباً سليماً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونسنتغفرك لما تعلم يا سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد

آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ.. الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

 سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

  

خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين